حكم دم الإجهاض في الفقه الإسلامي
تعد قضايا الدماء المرتبطة بالمرأة من أدق المسائل التي تناولها الفقه الإسلامي بعناية بالغة، لما لها من ارتباط وثيق بالعبادات كالصلاة والصيام والطهارة، فضلاً عن أحكام الأسرة والعدة والطلاق. ومن بين هذه المسائل الدقيقة، تأتي مسألة دم الإجهاض، والتي تثير تساؤلات متعددة في أوساط النساء والفقهاء والأطباء، نظراً لاختلاف حالاتها وتشعب أسبابها الطبية والشرعية. وفي هذا المقال، يتم تناول حكم دم الإجهاض في ضوء أقوال الفقهاء، مع بيان أحكام الطهارة والعبادة المتعلقة به، وتفصيل الحالات الفقهية التي قد تختلف فيها الأحكام تبعاً لعمر الجنين وهيئته ونموه.
مفهوم الإجهاض في اللغة والاصطلاح
الإجهاض لغةً: مأخوذ من الجُهْض، وهو السقوط قبل اكتمال الشيء، فيقال “جهضت الناقة ولدها” إذا أسقطته قبل أوانه.
الإجهاض اصطلاحاً: هو خروج الجنين من رحم أمه قبل تمام خلقه ونفخ الروح فيه، سواء كان ذلك تلقائيًا أو بفعل خارجي متعمّد.
أنواع الإجهاض من حيث السبب
-
إجهاض طبيعي (تلقائي): ويحدث بدون تدخل طبي أو خارجي، نتيجة لظروف صحية أو ضعف في الرحم أو أمراض معينة.
-
إجهاض طبي: بناءً على تشخيص طبي لحالة الجنين أو الأم بما يهدد سلامتهما.
-
إجهاض متعمّد (جنائي): يتم بفعل خارجي من المرأة أو غيرها بقصد إسقاط الجنين.
ويجدر التنبيه إلى أن الحكم على دم الإجهاض يتأثر كثيراً بعمر الجنين وبالسبب المؤدي إليه، لا بمجرد وجود الدم فقط.
تصنيف دم الإجهاض من حيث الفقه
تختلف أحكام دم الإجهاض بحسب مرحلة نمو الجنين التي وقع فيها الإسقاط، وفيما يلي بيان المراحل الأربعة التي يعتمد عليها الفقهاء في التمييز بين أنواع الدم الناتج عن الإجهاض:
1. الإجهاض قبل الأربعين يوماً
في هذه المرحلة يكون الجنين عبارة عن نطفة، لم يتشكل بعد، ولا تظهر له أي معالم بشرية.
حكم الدم:
الدم النازل بعد إجهاض النطفة لا يُعد نفاساً، ولا يأخذ حكم الحيض، بل هو دم فساد، فتغتسل المرأة منه وتُصلّي وتصوم ولا تترك العبادة، لأن هذا الدم لا يرتبط بولادة حقيقية.
الدليل:
قال الإمام ابن قدامة في “المغني”:
“وإن خرجت نطفة لم يتبين فيها خلق إنسان، فليس بدم نفاس، وقال عطاء والحسن والشافعي: لا يكون نفاسًا إلا أن يُعلم أنه خلق إنسان.”
2. الإجهاض بين الأربعين والثمانين يوماً
في هذه المرحلة قد تبدأ النطفة بالتطور لتأخذ شكل العلقة أو المضغة، وغالباً لا يكون فيها تمايز واضح للأعضاء.
حكم الدم:
إذا لم يكن هناك تخلّق ظاهر للجنين، فإن الدم في هذه الحالة أيضاً يعتبر دم فساد وليس دم نفاس، ويأخذ حكم النجاسة التي يجب التطهر منها دون ترك العبادات.
أما إذا وُجد تخلّق (ولو جزئي)، مثل ظهور الرأس أو الأطراف أو ملامح بدائية للجنين، فإن الدم يأخذ حكم النفاس.
3. الإجهاض بعد التخلّق وقبل نفخ الروح (بعد 80 يوماً وقبل 120 يوماً تقريباً)
يبدأ الجنين في هذه المرحلة بالتخلّق بشكل أوضح، لكن لم تنفخ فيه الروح بعد.
حكم الدم:
إذا كان الجنين متخلّقاً عند الإجهاض، فإن الدم الناتج يُعد نفاساً باتفاق الفقهاء، ويترتب عليه جميع أحكام النفاس، من ترك الصلاة والصيام، والامتناع عن الوطء حتى الطهر.
الدليل:
قال الإمام النووي في “المجموع”:
“لو ألقت مضغة لم يُتبين فيها خلق إنسان، فليست بنفاس، وإن تبين الخلق فهو نفاس.”
4. الإجهاض بعد نفخ الروح (بعد 120 يوماً)
في هذه المرحلة يكون الجنين قد اكتمل تخلقه ونُفخت فيه الروح، وبحسب الشرع يُعد مخلوقاً حياً كاملاً.
حكم الدم:
الدم النازل بعد هذا الإجهاض يأخذ حكم النفاس الكامل، وتلتزم المرأة بكل الأحكام المتعلقة بالنفاس من حيث الطهارة والصلاة والصيام والجماع وغيرها.
ملاحظة مهمة:
يُعد إسقاط الجنين بعد نفخ الروح قتلاً للنفس المعصومة، ويترتب عليه الدية والكفارة، إلا إذا كان الإجهاض لأسباب طبية تقتضي إنقاذ حياة الأم، فيكون ذلك ضمن ضوابط الضرورة الشرعية.
جدول توضيحي لحكم دم الإجهاض حسب عمر الجنين
| عمر الجنين | التخلّق ظاهر؟ | حكم الدم النازل | هل يُعد نفاساً؟ | هل تُمنع العبادة؟ |
|---|---|---|---|---|
| أقل من 40 يوماً | لا | دم فساد | لا | لا تُمنع |
| بين 40 – 80 يوماً | لا | دم فساد | لا | لا تُمنع |
| بين 40 – 80 يوماً | نعم | دم نفاس | نعم | تُمنع |
| بين 80 – 120 يوماً | نعم | دم نفاس | نعم | تُمنع |
| أكثر من 120 يوماً | نعم | دم نفاس | نعم | تُمنع |
أثر دم الإجهاض على الطهارة والعبادات
1. الصلاة والصيام:
إذا اعتبر الدم نفاساً، حرُم على المرأة الصلاة والصيام، وعليها قضاء الصوم فقط بعد الطهر. أما إذا كان دم فساد، وجب عليها الطهارة والصلاة والصيام في وقتهما.
2. الطهارة:
في حالة دم الفساد، يجب على المرأة الوضوء لكل صلاة إن كان مستمراً، ويجوز الجمع بين الصلوات إذا كان يشق عليها التطهر لكل فرض.
3. الوطء:
لا يجوز لزوجها وطؤها ما دام الدم نفاساً، ويجوز ذلك فقط بعد انقطاع الدم واغتسالها.
4. العدة والطلاق:
إذا كان الجنين قد نفخت فيه الروح ووقع طلاق المرأة بعد الإجهاض، فإن عدتها تكون عدة النفساء. أما إذا كان قبل نفخ الروح ولم يظهر التخلّق، فلا تترتب أحكام العدة الكاملة على الإجهاض.
أقوال المذاهب الأربعة في دم الإجهاض
-
المالكية: يرون أن الدم لا يُعد نفاساً إلا إذا تبين في الجنين خلق الإنسان بوضوح.
-
الشافعية: يشترطون التخلق الظاهر للحكم على الدم بأنه نفاس.
-
الحنابلة: يوافقون الشافعية، ويربطون حكم النفاس بظهور خلق الإنسان.
-
الحنفية: يعتبرون الدم نفاساً إذا تبين التخلق، ولو جزئياً، وإلا فهو دم فساد.
العلاقة بين رأي الفقهاء وتقديرات الأطباء
يرى بعض العلماء المعاصرين أنه يمكن الرجوع إلى الطب الحديث لتحديد ما إذا كان الجنين قد تخلّق أم لا، وخاصة باستخدام أجهزة التصوير الحديثة كالسونار، وذلك عند اختلاف التقدير أو غياب دلائل خلق الإنسان.
وقد أشار مجمع الفقه الإسلامي إلى أهمية الاستفادة من التقدم الطبي لتحديد بداية الخلق وتمييز مراحل الجنين، وذلك لأثر ذلك في الأحكام الشرعية المتعلقة بالدم، والدية، والعبادات، والعدة.
حالات خاصة في دم الإجهاض
1. إسقاط الكيس الفارغ:
بعض النساء يُسقطن ما يسمى بـ”الكيس الحملي الفارغ” دون أن يتشكل فيه جنين. وفي هذه الحالة، لا يعد الدم الناتج نفاسًا، بل هو دم فساد.
2. وجود تجلطات دموية فقط:
إذا نزلت كتل دموية بعد تأخر الدورة، واعتقدت المرأة أنه إجهاض دون وجود ما يدل على تخلّق الجنين، فليس هذا بنفاس.
3. الإجهاض المتكرر لأسباب طبية:
إن تكررت حالات الإجهاض وكان الجنين يتخلق في كل مرة، فيترتب على ذلك نفس الأحكام المرتبطة بالنفاس من كل مرة.
خاتمة
يتبين من خلال هذا العرض التفصيلي أن دم الإجهاض لا يحمل حكماً موحداً في جميع حالاته، وإنما يتوقف تحديد طبيعته الشرعية على عدة عوامل أهمها: عمر الجنين، ومدى تخلّقه، وما إذا كانت قد نفخت فيه الروح. الفقهاء متفقون على أن ظهور خلق الإنسان شرط أساس في اعتبار الدم دم نفاس، بينما الدم الناتج عن إسقاط نطفة أو علقة غير مخلقة لا يعد نفاساً، ولا يمنع العبادات.
وتأسيساً على ذلك، فإن الاحتياط في هذا الباب واجب، خاصة في ظل التداخل الكبير بين الطب والفقه، ويُستحسن للمرأة الرجوع إلى الطبيب المسلم الثقة لتحديد مرحلة الجنين، ومن ثم الرجوع إلى فتوى موثوقة تطابق حالتها.
المراجع:
-
ابن قدامة، المغني، دار الفكر.
-
النووي، المجموع شرح المهذب، دار الفكر.
